د. عمر القراي
مدخل
هذه أطروحة للنقاش ، ويمكن ان تطور في المستقل ، برصد بعض الإحصائيات ، التي تتضمنها بعض البحوث ، لتصبح نظرية ، من ضمن النظريات العلمية ، التي يمكن ان تفسر، وتعالج ظاهرة العنصرية على انها في هذه المرحلة ، انما كتبت بغرض اثارة الحوار ، الذي يمكن ان يبلورها بالنقد ، ويطورها ويسددها ، لتكون بحثاً أولياً يمكن ان يوسع ليصبح ورقة متكاملة مقدمة لدراسة موسعة . لقد عانى العالم ، في مختلف مراحل التاريخ ، من ويلات الحروب والغارات .. وكانت النعرة العنصرية ، من أكثر الدوافع وراء هذه الحروب . فقد ابيدت الامم ، بسبب فرض سيطرة مجموعة ، من عنصر معين ، لارادتها وثقافتها على الآخرين ، باعتبارها الافضل . إن الافتراض الاساسي لهذه الورقة ، هو ان العنصرية في كل اشكالها ، ومختلف مراحلها، كانت ولا تزال تعتمد في الأساس على مفهوم ديني . فالإنسان لم يتعالى على اخيه الانسان ، الا بزعمه قربه من الاله !! ولكن هذا المكون الديني ، قد لا يظهر لدى النظر غير المتعمق ، ولهذا انشغل الناشطون في حقوق الانسان ، بمواجهة العنصرية ، باعتبارها فكرة تقوم عل أفضلية العنصر، او اللون ، من دون اعتبار لموضوع الدين ، ومن اجل ذلك ، لم ينجحوا في مواجهتها بصورة حاسمة .وعندنا في السودان ، سارت مناهضة العنصرية ، على قلتها ، وندرة كتابها ، في هذا الطريق المطروق .. فلقد ظنوا ان (الجلابة) ، استأثروا بالسلطة والثروة ، وابعدوا كل العناصر الأخرى، بسبب اعتقادهم بانهم عرب ، والآخرون عجم ، وانهم بسبب هذا الزعم ، الذي يعتمد على العروبة ، أفضل من العناصر الأخرى ، لانها ليست عربية . ولأن هنالك شواهد عديدة ، على ان السودانيين ، حتى في وسط السودان ، ليسوا عرباً ، فان بعض الاتجاهات المقاومة للعنصرية، تحاول توعية الناس ، بهذه الحقيقة ، باعتبارها بمثابة مناهضة فكرية رصينة ، للادعاء العروبي العنصري الزائف
على ان هذا الاتجاه ، لا يكفي ، لانه لا يجيب على السؤال : لماذا يصر السودانيين ، في الشمال ، على عروبتهم ، التي لا يدل عليها لونهم ولا ثقافتهم؟! لماذا لا يقولوا بانهم نوبيين ، وهم أهل حضارة قديمة ، ولهذا فانهم أفضل من الزنوج ؟! بل لماذا ترى قبائل وسط السودان ، انها افضل من قبائل الشمال الاخرى ، ذا ت الاصل النوبي أو البجاوي . إن هذه الورقة ، تنظر في العنصرية ، بصورة عامة ، وعلى المضمون الفكري لها ، فتتناول العنصرية العربية ، وعلاقتها بالاسلام ، ثم تنظر في التجربة السودانية ، وتطرح استراتيجية لمواجهة العنصرية ، تأخذ في اعتبارها التركيز على الدين ، باعتباره العنصر الاهم ، والقادر على صياغة افكار الناس ، وتوجيه سلوكهم الاجتماعي ، نحو التغيير
المفهوم والممارسة
لا أحد يعرف متى بدأت العنصرية ، ولكن اغلب الظن انها نشأت مع بداية الصراع البشري ، حول الموارد المحدودة ، والتي كان لابد من الاقتتال حولها ، بدوافع غريزة الحياة .. فالمجموعة البشرية البدائية ، التي تهزم مجموعة أخرى ، وتستولي على ما حصلت عليه من صيد ، لابد لها من ايجاد مبرر، يقنع افرادها ، بانهم افضل من المجموعة الأخرى ، واحق بنيل ممتلكاتها، مما يركز فيهم شعوراً قوياً بالتميز يدفعهم للاستماتة من اجل الانتصار.. ولقد كان الافراد الاقوياء، في المجتمعات البدائية ، يزعمون انهم آلهه ، حتى يحكمون سيطرتهم على شعوبهم ، أو يزعمون انهم ابناء الآلهه ، أو ظلالها في الارض . ولم تكن هنالك قيمة في المجتمع البدائي تعتمد عليها فكرة الافضلية ، غير القرب من الإله .. وحين تنتصر جماعة على أخرى ، يلغي اله المجموعة المغلوبة ، ويفرض عليها عبادة إله الجماعة المنتصرة واعرافها . وهكذا تسقط آلهه ، وتختفي ديانات ، وتتوحد الشعوب حول معتقدات جديدة . ولقد استمر هذا الوضع ، الى عهود متأخرة ، حتى ان الامبراطورية الرومانية ، قد فرضت المسيحية ، على معظم العالم في القرون الوسطى ، وتبع ذلك انتشار الاسلام ، عن طريق فتح البلاد ، حتى ضاهت دار الاسلام الامبراطورية الفارسية والرومانية ، اذ امتدت حتى الصين شرقاَ ، وحتى المغرب غرباً ، ثم توغلت بعد الاندلس ، الى وسط وشمال اوربا .. وحين هاجر الاوربيون الى أمريكا ، كانت أهم حججهم في القضاء على الهنود الحمر، انهم رفضوا ان يقبلوا المسيحية ، ولم يكن مستغرباً ان تصحب الحملات التبشيرية ، الجيوش المستعمرة ، في القرن التاسع عشر، في كل انحاء افريقيا ، سوى ان كان ذلك الاستعمار انجليزياً أو فرنسياً او أيطالياً .. ان الامر المشترك ، بين كل حالات احتلال الشعوب لبعضها ، بالاضافة للدوافع الاقتصادية ، هو ان الشعب المحتل الغازي ، يعتقد انه افضل من الشعب المغلوب المحتل، وهذه الافضلية انما تبرر بعدة عناصر، مثل القوة ، او الحضارة ، او الكفاءة الادارية ، أو نقاء العنصر، او بياض اللون، ولكن يكمن في عمق هذه المبررات ، ان دينها أفضل .. وهذا ما يجعلها تسعى لتغيير دين البلاد ، التي وقع عليها الاحتلال ، ومن هنا ، فان الدين عنصر جوهري ، في كل دعاوي العنصرية ، ومختلف اشكالها .. ولعل من ابرز تجارب ارتباط العنصرية بالدين ، التجربة اليهودية ، فقد ظلت اليهودية عبر مئين السنين ، تقوم على افضلية الجنس العبري ، ودعم هذه الافضلية بمفهوم ديني متكامل .
لقد تلطف مفهوم العنصرية ، بفضل الله ثم بفضل التطور العلمي ، الذي حسم بعد ابحاث مضنية، في الجينات والخلايا ، كافة دعاوى العنصرية .. اذ ثبت بما لا يدع مجال للشك ، بانه ليس هناك أي فرق جوهري ، بين البشر، يمكن الاعتماد عليه ، لتبرير اي ادعاء افضلية طبيعية ، يمكن ان تعتمد عليه العنصرية .. فلم يعد من العلمية ، الحديث عن افضلية الجنس الآري، أو العنصر العبري ، او غيرهما. لهذا تحولت الدعاوى العنصرية السافرة ، الى صور اخف مثل الدعاوي القومية ، التي تركز على فضائل قومية معينة ، دون ان تصرح بانها افضل من بقية القوميات . ومع ذلك ، فقد كان التعصب للقوميات سبباً في كثير من الحروب ، التي اضطرت العالم للتدخل كما حدث في البوسنا والهرسك .. وفي المنطقة العربية ، قامت حركة القومية العربية ، على تعبئة العرب ضد اسرائيل، ولكن بهزيمة العرب في 1967 انهارت فكرة القومية العربية وضعفت تياراتها الناصرية ، والبعثية ، واخلت ساحة مقاومة اسرائيل للتيارات الاسلامية
الإسلام والعنصــرية
اتفق المفسرون ، في ان تفسير آية ” كنتم خير أمة أخرجت للناس ” ، إنها نزلت لتؤكد افضلية العرب ، على سائر العالمين .. ولعل دعم موضوع أفضلية العرب ، يتخذ سنده من ان القرآن نزل باللغة العربية .. وجاء في الحديث النبوي ( اصطفى الله ولد اسماعيل من العالمين واصطفى العرب من ولد اسماعيل واصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فانا خيار من خيار ولا فخراً ) .. وأفضلية العرب في الاسلام ، ليست أمراً دينياً صرفاً ، وانما هي تشمل ايضاً ، الوضع السياسي ، فقد جاء في الحديث ( الخلافة في قريش ) .. ومن عجب ان هذا الفهم ، لازال يدرس حتى اليوم ، من ضمن مادة الثقافة الاسلامية ، التي فرضت على الجامعات ، اذ جاء في احد كتبها ، ان من شروط الخليفة ان يكون ” ذكر ، حر ، عاقل ، ومن قريش ” !! هذا المستوى من فهم الاسلام ، دعم العنصرية العربية ، وايدها ، واعطاها تبريراً ، دينياً ، قوياً ، وهو المستوى الذي قامت عليه الشريعة الاسلامية .. ولقد كان لهذه النعرة العنصرية ، القدح المعلى ، في الخلافات التي نشبت في الدولة الاسلامية ، حين توسعت خارج جزيرة العرب وضمت اجناساً مختلفة .. فقد قاوم هؤلاء هذا الاتجاه ، وتصارعوا معه ، فيما عرف بصراع العرب والموالي ، وكان من الاسباب التي ادت الى تدهور الدولة واضمحلالها .. ولم يستطع المسلمون ، حتى الآن ، تبني فكرة اسلامية ، مستمدة من خارج الشريعة .. ولهذا فان انتشار الاسلام ، انما يعني انتشار فكرة العنصرية، خاصة في الدولة التي بها اثنيات اخرى ، غير العرب متعايشة معهم ، كما هو حالنا في السودان .
على انه من حسن التوفيق الإلهي ،ان هذا المستوى ، الذي قامت عليه الشريعة ، ليس جوهر الاسلام ، وانما هو تنزل عن الأصل ، املته ضرورة مسايرة مستوى مجتمع الجزيرة العربية ، في القرن السابع الميلادي .. أما في جوهر الاسلام ، فقد جاء قوله تعالى ( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) وجاء في الحديث ( لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب ).. وحين قال أبوذر رضي الله ، عنه لبلال رضي الله عنه : يا ابن السوداء ، زجره النبي وقال : انك امرؤ فيك جاهلية ) . ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجلاً في سوق عكاظ ، وعليه جمهرة من الناس فسأل : ماذا يفعل هذا ؟ قالوا: يعلم الناس انساب العرب . قال : علم لا ينفع وجهل لا يضر !! هذا المستوى الذي يرفع القيمة عن الجنس ، ويعلقها بالاخلاق ، ويفتح بذلك الباب ، لكل انسان لتحقيق ارفع القيم ، هو جوهر الاسلام ، الذي لم يقم عليه التطبيق في الماضي ، ولا يزال يجهله المسلمون اليوم
المشكل السوداني
من المؤكد ، ان دخول العرب السودان ، لم يكن باعداد كبيرة هائلة ،تمكنهم من التغيير الاثني للسكان في المناطق التي استقروا فيها في وسط السودان .. اذ لم يذكر التاريخ ، هجرة كهذه ، ولم يكن هنالك سبب لمثل هذه الهجرة . الثات تاريخياً ، ان اعداد قليلة من العرب ، عبروا البحر الاحمر، كتجار، استقروا في الساحل اوقريب منه ، قبل الاسلام .. ثم حملة عبد الله ابن ابي السرح لاحتلال دنقلا ، والتي منيت بالفشل. إن العرب الذي أثّروا على شمال السودان، انما دخلوا كافراد ، فروا من بطش بني أمية ، بعضهم من اتباع أهل البيت ، وبعضهم من الصوفية الذين آثروا الابتعاد عن مظالم الملوك .. ولقد دخل الاسلام على ايدي هؤلاءالمتصوفة ، عن طريق سلمي ، وبطئ ، ولكنه بالغ التاثير على النوبة ، الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة . فقد قاوم النوبة حملة ابن ابي السرح ، لانها جاءت بالقوة والبطش ، وتقبلوا اسلام التصوف ، لانه جاء بالتي هي احسن، ولأمر آخر، هو ان الاسلام الصوفي، تفاعل مع البيئة ، واظهر المستوى الذي لا يعتمد على العنصرية العربية ، وانما يقوم على جوهر الدين الذي يساوي بين الناس .. ولما كان التصوف يقوم على النموذج ، لا على الوعظ ، فقد دل هؤلاء الصوفية عملياً ، على انهم يحبون كل الناس ، رغم اختلاف اجناسهم ، بان جعلوا بعض كبار مشايخهم ، من هؤلاء النوبيين لقد استمر هذا الوضع خلال السلطنة الزرقاء ، التي كانت متاثرة بالصوفية ، ولكن المهدية حين اتجهت الى تطبيق الشريعة ، نزعت الى تفضيل العرب ، بل ان المهدي نفسه ، زعم من ضمن أدلة مهديته، ان نسبه يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبع وفاة المهدي، الصراع بين الخليفة عبد الله التعايشي ، وآل المهدي الذين عرفوا بالاشراف ، ثم توسع الخلاف لاسباب كثيرة ليصبح صراع أهل الشمال واهل الغرب أو ( الجلابة) و(الغرابة ) كما سماه بعضهم .. ولقد ادى انتشار تجارة الرقيق ، التي شارك فيها ابناء الشمال ، الى تكريس النعرة العنصرية ، وتغذيتها واستمرت هذه خلال التركية والمهدية .. وحين اوقف الانجليز، تجارة الرقيق بقانون ، رفع الزعماء الدينيين ، مذكرة احتجاج، يؤكدون فيها ان هذا القرار سيضر بالمصالح التجارية والزراعية لكبار الملاك .
ان التطلع الى وضع افضل ، جعل قبائل وسط السودان ، تربط نفسها بالعرب ، وتعتز بمعرفة لغتهم ، واشعارهم وثقافتهم ، وتعزل نفسها من جيراننا من الافارقة ، فلا نعرف عنهم ما يكفي لانشاء علاقات مفيدة معهم .. ولقد ساهم الاعلام في السودان على ترسيخ فكرة عروبة اهل الشمال ، وافضليتهم ، بسبب هذه العروبة ، وبسبب ان العروبة نفسها مفضلة في الاسلام .. وبذلك تم عزل الثقافات الاخرى ، وابعادها عن متناول المواطن ، فلا نسمع في الاذاعة ، ولا نرى في التلفزيون ، في بلد ملئ بالثقافات ، الا ما يرتبط بالثقافة العربية الاسلامية ، والتراث والفلكلور والفن العربي الاسلامي . ولم يكن هذا العزل المنظم ، وهذه الافضلية المقررة ، في الاعلام فحسب ، وانما في مناهج التعليم ايضاً ، حتى وصلنا الآن الى من يكتب في الصحف باننا في الشمال ، عرب تماما ،ً ولا يربطنا رابط باخواننا في الجنوب ، ويدعو لهذا للانفصال .
لقد تكونت ذهنية المواطن السوداني ، في الشمال ، على انه الافضل ، لانه ينتمي للعرب ، والعرب الافضل، لان الاسلام قد ذكر ذلك، ولهذا هم أحق بحكم البلاد من غيرهم .. ولعل هذا الفهم ، كان وراء الخدعة التي خدعها الساسة الشماليون ، لاخوانهم الجنوبيين ، حين وعدوهم بالحكم الذاتي ، بعد الاستقلال ، ثم لم يمنحوهم في الجنوب الا 6 وظائف من 600 وظيفة ، وكان هذا مما ادى الى تمرد عام 1955 . ولقد استمرت حكوماتنا بعد الاستقلال ، تتقرب الى الدول العربية ، وتبتعد عن الدول الافريقية ، وتعزل مواطنيها في الشمال عن الجنوب ، وتساهم سلبياً في تفاقم الحرب الأهلية ، بالفشل المتواصل في حل المشكلة . وحتى حين وفق نميري لاتفاقية السلام عام 1970 انتكس عنها حين تراجع من كل انجازاته ، وسقط في يد الهوس الديني، عام 1983 مما صعد الحرب من جديد ، بمستوى جديد، ظهرت به الحركة الشعبية ، لأول مرة في تاريخ الصراع وحين ظهرت الحركات الاسلامية في السودان ، وقعت تلقائياً في فخ العنصرية ، اذ لم يكن لديها فهم يمكنها من تصور خارج اطار الشريعة .. فاتجه خطابها الى تركيز أفضلية العرب والاسلام وكان برنامج معالجتها لمشكلة الجنوب ، هو التعبئة للحرب ، بغرض اسلمة الجنوب وتعريبة بالقوة .. ولقد تفاقم الوضع دون شك ، حين وصلت هذه الجماعات الاسلامية ، الى السلطة ، وكانت تستهدف القضاء على الحركة الشعبية بالقوة ، ثم اخضاع الجنوبيين للاسلام والتعريب .. ولقد فعلت ما لم تفعله أي حكومة اخرى ، لتصل لهذا الغرض .